فصل: من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد ابن عاشور في الآية:

قال رحمه الله:
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}.
{ثم} هنا للترتيب الرتبي الذي تتهيأ له ثم إذا عَطفت الجمل، أي ومع ذلك كله لم تلن قلوبكم ولم تنفعكم الآيات {فقست قلوبكم} وكان من البعيد قسوتها.
وقوله: {من بعد ذلك} زيادة تعجيب من طرق القساوة للقلب بعد تكرر جميع الآيات السابقة المشار إلى مجموعها بذلك على حد قول القطامي:
أكفرًابعد ردِّ الموتتِ عني ** وبعدَ عَطائك المائة الرِّتاعَا

أي كيف أكفر نعمتك أي لا أكفرها مع إنجائك لي من الموت إلخ.
ووجه استعمال بعد في هذا المعنى أنها مجاز في معنى مع لأن شأن المسبب، أن يتأخر عن السبب ولما لم يكن المقصد التنبيه على تأخره للعلم بذلك وأريد التنبيه على أنه معه إثباتًا أو نفيًا عُبر ببعد عن معنى مع مع الإشارة إلى التأخر الرتبي.
والقسوة والقساوة توصف بها الأجسام وتوصف بها النفوس المعبر عنها بالقلوب فالمعنى الجامع للوصفين هو عدم قبول التحول عن الحالة الموجودة إلى حالة تخالفها.
وسواء كانت القساوة موضوعة للقدر المشترك بين هذين المعنيين الحسي والقلبي وهو احتمال ضعيف أم كانت موضوعة للأجسام حقيقة واستعملت في القلوب مجازًا وهو الصحيح، فقد شاع هذا المجاز حتى ساوى الحقيقة وصار غير محتاج إلى القرينة فآل اللفظ إلى الدلالة على القدر المشترك بالاستعمال لا بأصل الوضع وقد دل على ذلك العطف في قوله: {أو أشد قسوة} كما سيأتي.
وقوله: {فهي حجارة} تشبيه فرع بالفاء لإرادة ظهور التشبيه بعدحكاية الحالة المعبر عنها بقست لأن القسوة هي وجه الشبه ولأن أشهر الأشياء في هذا الوصف هو الحجر فإذا ذكرت القسوة فقد تهيأ التشبيه بالحجر ولذا عطف بالفاء أي إذا علمت أنها قاسية فشبهها بالحجارة كقول النابغة يصف الحجيج:
عليهن شعثٌ عامدون لربهم ** فهُنَّ كأطراف الحَنِيِّ خواشع

وقد كانت صلابة الحجر أعرف للناس وأشهر لأنها محسوسة فلذلك شبه بها، وهذا الأسلوب يسمى عندي تهيئة التشبيه وهو من محاسنه، وإذا تتبعت أساليب التشبيه في كلامهم تجدها على ضربين ضرب لا يهيأ فيه التشبيه وهو الغالب وضرب يهيأ فيه كما هنا والعطف بالفاء في مثله حسن جدًا وأما أن يأتي المتكلم بما لا يناسب التشبيه فذلك عندي يعد مذمومًا.
وقد رأيت بيتًا جمع تهيئة التشبيه والبعد عنه وهو قول ابن نباتة:
في الريق سُكْر وفي الأَصداغ تجعيد ** هذا المُدَام وهاتيك العناقيد

فإنه لما ذكر السكر تهيأ التشبيه بالخمر ولكن قوله: تجعيد لا يناسب العناقيد.
فإن قلت لم عددته مذمومًا وما هو إلا كتجريد الاستعارة؟
قلت: لا لأن التجريد يجيء بعد تكرر الاستعارة وعلم بها فيكون تفننًا لطيفًا بخلاف ما يجيء قبل العلم بالتشبيه.
وقوله: {أو أشد قسوة} مرفوع على أنه خبر مبتدأ دل عليه قوله: {فهي كالحجارة} وأو بمعنى بل الانتقالية لتوفر شرطها وهوكون معطوفها جملة.
وهذا المعنى متولدمن معنى التخيير الموضوعة له أو لأن الانتقال ينشأ عن التخيير فإن القلوب بعد أن شبهت بالحجارة وكان الشأن يكون المشبه أضعف في الوصف من المشبه به يُبنى على ذلك ابتداءُ التشبيه بما هو أشهر ثم عقب التشبيه بالترقي إلى التفضيل في وجه الشبه على حد قول ذي الرمة:
بَدَتْ مثل قرن الشمس في رونق الضُّحى ** وصورتِها أو أنتتِ في العين أَمْلَح

فليست أو للتخيير في التشبيه أي ليست عاطفة على قوله الحجارة المجرورة بالكاف لأن تلك لها موقع مَا إذا كُرر المشبه به كما قدمناه عند قوله تعالى: {أوْ كصيب من السماء} [البقرة: 19].
ويجوز أن تكون للتخيير في الأخبار عطفًا على الخبر الذي هو {كالحجارة} أي فهي مثل الحجارة أو هي أقوى من الحجارة والمقصود من التخيير أن المتكلم يشير إلى أنه لا يرمي بكلامه جزافًا ولا يذمهم تحاملًا بل هومتثبت متحر في شأنهم فلا يُثْبِت لهم إلا ما تبين له بالاستقراء والتقصي فإنه ساواهم بالحجارة في وصف ثم تَقَصَّى فرأى أنهم فيه أقوى فكأنه يقول للمخاطب إن شئت فسَوِّهم بالحجارة في القسوة ولك أن تقول هم أشد منها وذلك يفيد مفاد الانتقال الذي تدل عليه بل وهو إنما يحسن في مقام الذم لأن فيه تلطفًا وأما في مقام المدح فالأحسن هو التعبير ببل كقول الفرزدق:
فقالت لنا أهلًا وسهلًا وزوَّدَتْ ** جَنَى النَّحْل بل ما زوّدتْ منه أطيب

ووجه تفضيل تلك القلوب على الحجارة في القساوة أن القساوة التي اتصفت بها القلوب مع كونها نوعًا مغايرًا لنوع قساوة الحجارة قد اشتركا في جنس القساوة الراجعة إلى معنى عدم قبول التحول كما تقدم فهذه القلوب قساوتها عند التمحيص أشد من قساوة الحجارة لأن الحجارة قد يعتريها التحول عن صلابتها وشدتها بالتفرق والتشقق وهذه القلوب لم تُجْدِ فيها محاولة.
وقوله: {وإن من الحجارة لما يتفجَّر} إلخ تعليل لوجه التفضيل إذ من شأنه أن يُستغرب، وموقع هذه الواو الأولى في قوله: {وإن من الحجارة} عسير فقيل: هي للحال من الحجارة المقدَّرة بعد {أَشَد} أي أشد من الحجارة قسوةً، أي تفضيل القلوب على الحجارة في القسوة يظهرُ في هذه الأحوال التي وُصِفت بها الحجارة ومعنى التقييد أن التفضيل أظهر في هذه الأحوال، وقيل هي الواوللعطف على قوله: {فهي كالحجارة أو أشد قسوة} قاله التفتازاني، وكأنه يجعل مضمون هذه المعطوفات غير راجع إلى معنى تشبيه القلوب بالحجارة في القساوة بل يجعلها إخبارًاعن مزايا فَضُلت بها الحجارة على قلوب هؤلاء بما يحصل عن هذه الحجارة من منافع في حين تُعطَّلُ قلوب هؤلاء من صدور النفع بها، وقيل: الواو استئنافية وهو تذييل للجملة السابقة وفيه بعدكما صرح به ابن عرفة، والظاهر أنها الواو الاعتراضية وأن جملة {وإن من الحجارة} وما عطف عليها معترضاتٌ بين قوله: {ثم قست قلوبكم} وبين جملة الحال منها وهي قوله: {وما الله بغافل عما تعملون}.
والتوكيد بإنَّ للاهتمام بالخبر وهذا الاهتمام يؤذن بالتعليل ووجود حرف العطف قبلها لا يُناكدُ ذلك كما تقدم عند قوله تعالى: {فإن لكم ما سألتم} [البقرة: 61].
ومن بديع التخلص تأخُّر قوله تعالى: {وإنَّ منها لَمَا يهبط من خشية الله} والتعبير عن التَسخُّر لأمر التكوين بالخشية ليتم ظهور تفضيل الحجارة على قلوبهم في أحوالها التي نهايتها الامتثال للأمر التكليفي مع تعاصي قلوبهم عن الامتثال للأمر التلكيفي ليتأتى الانتقال إلى قوله: {وما الله بغافل عما تعملون} وقوله: {أفتطعمون أن يؤمنوا لكم} [البقرة: 75].
وقد أشارت الآية إلى أن انفجار الماء من الأرض من الصخور منحصر في هذين الحالين وذلك هو ما تقرر في علم الجغرافيا الطبيعية أن الماء النازل على الأرض يخرق الأرض بالتدريج لأن طبع الماء النزول إلى الأسفل جريًا على قاعدة الجاذبية فإذا أضغط عليه بثقل نفسه مِن تكاثُره أو بضاغطٍ آخرمن أهْوية الأرض تطلب الخروج حتى إذا بلغ طبقة صخرية أو صلصالية طفا هناك فالحجر الرملي يشرب الماء والصخور والصلصال لا يخرقها الماءُ إلا إذا كانت الصخور مركبة من مواد كلسية وكان الماءُ قد حمل في جريته أجزاء من معدن الحامض الفحمي فإن له قوة على تحليل الكلس فيحدث ثقبًا في الصخور الكلسية حتى يخرقها فيخرج منها نابعًا كالعيون.
وإذا اجتمعت العيون في موضع نشأت عنها الأنهار كالنيل النابع من جبال القمر، وأما الصخور غير الكلسية فلا يفتتها الماء ولكن قد يعرض لها انشقاق بالزلازل أو بفلق الآلات فيخرج منها الماء إما إلى ظاهر الأرض كما نرى في الآبار وقد يخرج منها الماء إلى طبقة تحتها فيختزن تحتها حتى يخرج بحالة من الأحوال السابقة.
وقد يجد الماء في سيره قبل الدخول تحت الصخر أو بعدَه منفذًا إلى أرض ترابية فيخرج طافيًا من سطح الصخور التي جرى فوقها.
وقد يجد الماء في سيره منخفضات في داخل الأرض فيستقر فيها ثم إذا انضمت إليه كميات أخرى تَطَلَّبَ الخروج بطريق من الطرق المتقدمة ولذلك يكثر أن تنفجر الأنهار عقب الزلازل.
والخشية في الحقيقة الخوفُ الباعث على تقوى الخائف غيرَه.
وهي حقيقة شرعية في امتثال الأمر التكليفي لأنها الباعث على الامتثال.
وجُعلت هنا مجازًا عن قبول الأمر التكويني إما مرسلًا بالإطلاق والتقييد، وإما تمثيلًا للهيئة عند التكوين بهيئة المكلَّف إذ ليست للحجارة خشية إذ لا عقل لها.
وقد قيل إن إسناد {يهبط} للحجر مجاز عقلي والمراد هبوط القلوب أي قلوب الناظرين إلى الصخور والجبال أي خضوعها فأسند الهبوط إليها لأنها سببه كما قالوا ناقة تاجرة أي تبعث من يراها على المساومة فيها.
وقوله: {وما الله بغافل عما تعملون} تذييل في محل الحال أي فعلتم ما فعلتم وما الله بغافل عن كل صنعكم.
وقد قرأه الجمهور بالتاء الفوقية تكملة خطاب بني إسرائيل، وقرأ ابن كثير ويعقوب وخلف يعملون بالياء التحتية وهو انتقال من خطابهم إلى خطاب المسلمين فلذلك غُيّر أسلوبه إلى الغيبة وليس ذلك من الالتفات لاختلاف مرجع الضميرين لأن تفريع قوله: {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم} [البقرة: 75] عليه دل على أن الكلام نقل من خطاب بني إسرائيل إلى خطاب المسلمين.
وهو خبر مراد به التهديد والوعيد لهم مباشرة أو تعريضًا. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}.
هَذِهِ الْقِصَّةُ مِمَّا أَرَادَ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَقُصَّهُ عَلَيْنَا مِنْ أَخْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي قَسْوَتِهِمْ وَفُسُوقِهِمْ لِلْاعْتِبَارِ بِهَا. وَمِنْ وُجُوهِ الِاعْتِبَارِ: أَنَّ التَّنَطُّعَ فِي الدِّينِ وَالْإِحْفَاءَ فِي السُّؤَالِ، مِمَّا يَقْتَضِي التَّشْدِيدَ فِي الْأَحْكَامِ، فَمَنْ شَدَّدَ شُدِّدَ عَلَيْهِ؛ وَلِذَلِكَ نَهَى اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ عَنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} [5: 101، 102] وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ» وَقَدِ امْتَثَلَ سَلَفُنَا الْأَمْرَ فَلَمْ يُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَكَانَ الدِّينُ عِنْدَهُمْ فِطْرِيًّا سَاذَجًا وَحَنِيفِيًّا سَمْحًا، وَلَكِنْ مِمَّنْ خَلَفَهُمْ مَنْ عَمَدَ إِلَى مَا عَفَا اللهُ عَنْهُ فَاسْتَخْرَجَ لَهُ أَحْكَامًا اسْتَنْبَطَهَا بِاجْتِهَادِهِ، وَأَكْثَرُوا مِنْهَا حَتَّى صَارَ الدِّينُ حِمْلًا ثَقِيلًا عَلَى الْأُمَّةِ فَسَئِمَتْهُ وَمَلَّتْ، وَأَلْقَتْهُ وَتَخَلَّتْ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: جَاءَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَلَى أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ الْخَاصِّ الَّذِي لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ وَلَمْ يُلْحَقْ فِيهِ، فَهُوَ فِي هَذِهِ الْقَصَصِ لَمْ يَلْتَزِمْ تَرْتِيبَ الْمُؤَرِّخِينَ، وَلَا طَرِيقَةَ الْكُتَّابِ فِي تَنْسِيقِ الْكَلَامِ وَتَرْتِيبِهِ عَلَى حَسَبِ الْوَقَائِعِ حَتَّى فِي الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَإِنَّمَا يُنَسِّقُ الْكَلَامَ فِيهِ بِأُسْلُوبٍ يَأْخُذُ بِمَجَامِعِ الْقُلُوبِ، وَيُحَرِّكُ الْفِكْرَ إِلَى النَّظَرِ تَحْرِيكًا، وَيَهُزُّ النَّفْسَ لِلْاعْتِبَارِ هَزًّا. وَقَدْ رَاعَى فِي قَصَصِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْوَاعَ الْمِنَنِ الَّتِي مَنَحَهُمُ اللهُ تَعَالَى إِيَّاهَا، وَضُرُوبَ الْكُفْرَانِ وَالْفُسُوقِ الَّتِي قَابَلُوهَا بِهَا، وَمَا كَانَ فِي أَثَرِ كُلِّ ذَلِكَ مِنْ تَأْدِيبِهِمْ بِالْعُقُوبَاتِ، وَابْتِلَائِهِمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، وَكَيْفَ كَانُوا يُحْدِثُونَ فِي أَثَرِ كُلِّ عُقُوبَةٍ تَوْبَةً، وَيُحْدِثُ لَهُمْ فِي أَثَرِ كُلِّ تَوْبَةٍ نِعْمَةً، ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَى بَطَرِهِمْ، وَيَنْقَلِبُونَ إِلَى كُفْرِهِمْ.
كَانَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ يَذْكُرُ النِّعْمَةَ، فَالْمُخَالَفَةَ، فَالْعُقُوبَةَ، فَالتَّوْبَةَ، فَالرَّحْمَةَ كَالتَّفْضِيلِ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَأَخْذِ الْمِيثَاقِ، وَالْإِنْجَاءِ مِنْ فِرْعَوْنَ، وَمَا كَانَ فِي أَثَرِ ذَلِكَ عَلَى مَا أَشَرْنَا الْآنَ وَأَجْمَلْنَا، وَأَوْضَحْنَا مِنْ قَبْلُ وَفَصَّلْنَا، وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ اخْتَلَفَ النَّسَقُ فَذَكَرَ الْمُخَالَفَةَ بَعْدُ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [2: 72] ثُمَّ الْمِنَّةَ فِي الْخَلَاصِ مِنْهَا فِي قَوْلِهِ: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} [2: 73] إِلَخْ، وَقَدَّمَ عَلَى ذَلِكَ ذِكْرَ وَسِيلَةِ الْخَلَاصِ، وَهِيَ ذَبْحُ الْبَقَرَةِ بِمَا يُعْجِبُ السَّامِعَ وَيُشَوِّقُهُ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا وَرَاءَهَا حَيْثُ لَمْ يَسْبِقْ فِي الْكَلَامِ عَهْدٌ لِسَبَبِ أَمْرِ مُوسَى لِقَوْمِهِ أَنْ يَذْبَحُوا بَقَرَةً، فَالْمُفَاجَأَةُ بِحِكَايَةِ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ الْأَمْرِ، وَالْجِدَالِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ يُثِيرُ الشَّوْقَ فِي الْأَنْفُسِ إِلَى مَعْرِفَةِ السَّبَبِ، فَتَتَوَجَّهُ الْفِكْرَةُ بِأَجْمَعِهَا إِلَى تَلَقِّيهِ إِذِ الْحِكْمَةُ فِي أَمْرِ اللهِ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ خَفِيَّةٌ وَجَدِيرَةٌ بِأَنْ يَعْجَبَ مِنْهَا السَّامِعُ وَيَحْرِصَ عَلَى طَلَبِهَا، لاسيما إِذَا لَمْ يَعْتَدْ فَهْمَ الْأَسَالِيبِ الْأَخَّاذَةِ بِالنُّفُوسِ الْهَازَّةِ لِلْقُلُوبِ. وَأَقُولُ: قَدْ جَرَى عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ كُتَّابُ الْقِصَصِ الْمُخْتَرَعَةِ وَالْأَسَاطِيرِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الرِّوَايَاتِ فِي هَذَا الْعَصْرِ.
يَقُولُ أَهْلُ الشُّبُهَاتِ فِي الْقُرْآنِ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يَعْرِفُونَ هَذِهِ الْقِصَّةَ؛ إِذْ لَا وُجُودَ لَهَا فِي التَّوْرَاةِ، فَمِنْ أَيْنَ جَاءَ بِهَا الْقُرْآنُ؟ وَنَقُولُ: إِنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ بِهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ الَّذِي يَقُولُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِنَّهُمْ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ، وَإِنَّهُمْ لَمْ يُؤْتَوْا إِلَّا نَصِيبًا مِنَ الْكُتَّابِ، عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَنْصُوصٌ فِي التَّوْرَاةِ، وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا قُتِلَ قَتِيلٌ لَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ، فَالْوَاجِبُ أَنْ تُذْبَحَ بَقَرَةٌ غَيْرُ ذَلُولٍ فِي وَادٍ دَائِمِ السَّيَلَانِ، وَيَغْسِلَ جَمِيعُ شُيُوخِ الْمَدِينَةِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْمَقْتَلِ أَيْدِيَهُمْ عَلَى الْعِجْلَةِ الَّتِي كُسِرَ عُنُقُهَا فِي الْوَادِي، ثُمَّ يَقُولُونَ: إِنَّ أَيْدِيَنَا لَمْ تَسْفِكْ هَذَا الدَّمَ، اغْفِرْ لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ، وَيُتِمُّونَ دَعَوَاتٍ يَبْرَأُ بِهَا مَنْ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْعَمَلِ مِنْ دَمِ الْقَتِيلِ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ الْقَاتِلُ، وَيُرَادُ بِذَلِكَ حَقْنُ الدِّمَاءِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحُكْمُ هُوَ مِنْ بَقَايَا تِلْكَ الْقِصَّةِ، أَوْ كَانَتْ هِيَ السَّبَبُ فِيهِ، وَمَا هَذِهِ بِالْقِصَّةِ الْوَحِيدَةِ الَّتِي صَحَّحَهَا الْقُرْآنُ، وَلَا هَذَا الْحُكْمُ بِالْحُكْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي حَرَّفُوهُ أَوْ أَضَاعُوهُ وَأَظْهَرَهُ اللهُ- تَعَالَى.
قَالَ الْأُسْتَاذُ: وَقَدْ قُلْتُ لَكُمْ غَيْرَ مَرَّةٍ: إِنَّهُ يَجِبُ الِاحْتِرَاسُ فِي قِصَصِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَعَدَمِ الثِّقَةِ بِمَا زَادَ عَلَى الْقُرْآنِ مِنْ أَقْوَالِ الْمُؤَرِّخِينَ وَالْمُفَسِّرِينَ، فَالْمُشْتَغِلُونَ بِتَحْرِيرِ التَّارِيخِ وَالْعِلْمِ الْيَوْمَ يَقُولُونَ مَعَنَا: إِنَّهُ لَا يُوثَقُ بِشَيْءٍ مِنْ تَارِيخِ تِلْكَ الْأَزْمِنَةِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا أَزْمِنَةَ الظُّلُمَاتِ إِلَّا بَعْدَ التَّحَرِّي وَالْبَحْثِ وَاسْتِخْرَاجِ الْآثَارِ، فَنَحْنُ نَعْذُرُ الْمُفَسِّرِينَ الَّذِينَ حَشَوْا كُتُبَ التَّفْسِيرِ بِالْقِصَصِ الَّتِي لَا يُوثَقُ بِهَا لِحُسْنِ قَصْدِهِمْ، وَلَكِنَّنَا لَا نُعَوِّلُ عَلَى ذَلِكَ بَلْ نَنْهَى عَنْهُ، وَنَقِفُ عِنْدَ نُصُوصِ الْقُرْآنِ لَا نَتَعَدَّاهَا، وَإِنَّمَا نُوَضِّحُهَا بِمَا يُوَافِقُهَا إِذَا صَحَّتْ رِوَايَتُهُ.
وَأَقُولُ: إِنَّ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْأُسْتَاذُ مِنْ حُكْمِ التَّوْرَاةِ الْمُتَعَلِّقِ بِقَتْلِ الْبَقَرَةِ هُوَ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ سِفْرِ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ وَنَصُّهُ:
(1) إِذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي الْأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلَهُكَ لِتَمْتَلِكَهَا وَاقِعًا فِي الْحَقْلِ لَا يُعْلَمُ مَنْ قَتَلَهُ.
(2) يَخْرُجُ شُيُوخُكَ وَقُضَاتُكَ وَيَقِيسُونَ إِلَى الْمُدُنِ الَّتِي حَوْلَ الْقَتِيلِ.
(3) فَالْمَدِينَةُ الْقُرْبَى مِنَ الْقَتِيلِ يَأْخُذُ شُيُوخُ تِلْكَ الْمَدِينَةِ عِجْلَةٌ مِنَ الْبَقَرِ لَمْ يُحْرَثْ عَلَيْهَا لَمْ تَجُرَّ بِالنِّيرِ.
(4) وَيَنْحَدِرُ شُيُوخُ تِلْكَ الْمَدِينَةِ بِالْعِجْلَةِ إِلَى وَادٍ دَائِمِ السَّيَلَانِ لَمْ يُحْرَثْ فِيهِ وَلَمْ يُزْرَعْ وَيَكْسِرُونَ عُنُقَ الْعِجْلَةِ فِي الْوَادِي.
(5) ثُمَّ يَتَقَدَّمَ الْكَهَنَةُ بَنُو لَاوَى. لِأَنَّهُ إِيَّاهُمُ اخْتَارَ الرَّبُّ إِلَهُكَ لِيَخْدِمُوهُ وَيُبَارِكُوا بِاسْمِ الرَّبِّ، وَحَسَبَ قَوْلِهِمْ تَكُونُ كُلُّ خُصُومَةٍ وَكُلُّ ضَرْبَةٍ.
(6) وَيَغْسِلُ جَمِيعُ شُيُوخِ تِلْكَ الْمَدِينَةِ الْقَرِيبِينَ مِنَ الْقَتِيلِ أَيْدِيَهُمْ عَلَى الْعِجْلَةِ الْمَكْسُورَةِ الْعُنُقِ فِي الْوَادِي.
(7) وَيُصَرِّحُونَ وَيَقُولُونَ: أَيْدِينَا لَمْ تَسْفِكْ هَذَا الدَّمَ وَأَعْيُنُنَا لَمْ تُبْصِرْ.
(8) اغْفِرْ لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ الَّذِي فَدَيْتَ يَارَبُّ، وَلَا تَجْعَلْ دَمَ بَرِّيٍّ فِي وَسَطِ شَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ. فَيُغْفَرُ لَهُمُ الدَّمُ. اهـ.
فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْأَمْرَ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ كَانَ لِفَصْلِ النِّزَاعِ فِي وَاقِعَةِ قَتْلٍ، وَيَرْوُونَ فِي قِصَّتِهِ رِوَايَاتٍ مِنْهَا أَنَّ الْقَاتِلَ كَانَ أَخَ الْمَقْتُولِ، قَتَلَهُ لِأَجْلِ الْإِرْثِ، وَأَنَّهُ اتَّهَمَ أَهْلَ الْحَيِّ بِالدَّمِ وَطَالَبَهُمْ بِهِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ كَانَ ابْنَ أَخِيهِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَكَانُوا طَلَبُوا مِنْ مُوسَى الْفَصْلَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَبَيَانَ الْقَاتِلِ، وَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ اسْتَغْرَبُوهُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمُبَايَنَةِ لِمَا يَطْلُبُونَ وَالْبُعْدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُرِيدُونَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بِقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} أَيْ سُخْرِيَةً يُهْزَأُ بِنَا، وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ سَفَهِهِمْ وَخِفَّةِ أَحْلَامِهِمْ وَجَهْلِهِمْ بِعَظَمَةِ اللهِ تَعَالَى وَمَا يَجِبُ أَنْ يُقَابَلَ بِهِ أَمْرُهُ مِنَ الِاحْتِرَامِ وَالِامْتِثَالِ، وَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ حِكْمَتُهُ بَادِيَ الرَّأْيِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَامْتَثَلُوا وَانْتَظَرُوا النَّتِيجَةَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَلَمَّا كَانَ فِي جَوَابِهِمْ هَذَا رَمْيٌ لِمُوسَى- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِالسَّفَهِ وَالْجَهَالَةِ {قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} أَيْ أَلْتَجِئُ إِلَى اللهِ وَأَعْتَصِمُ بِتَأْدِيبِهِ إِيَّايَ مِنَ الْجَهَالَةِ وَالْهُزْءِ بِالنَّاسِ.
{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} أَيْ مَا الصِّفَاتُ الْمُمَيِّزَةُ لَهَا؟ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ السُّؤَالَ مِمَّا هِيَ لَيْسَ جَارِيًا هُنَا عَلَى اصْطِلَاحِ عُلَمَاءِ الْمَنْطِقِ مِنْ جَعْلِهِ سُؤَالًا عَنْ حَقِيقَةِ الْمَاهِيَّةِ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى حَسَبِ أُسْلُوبِ اللُّغَةِ، وَالْعَرَبُ يَسْأَلُونَ بما عَنِ الصِّفَاتِ الَّتِي تَمَيِّزُ الشَّيْءَ فِي الْجُمْلَةِ كَالَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْجَوَابِ {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ} أَيْ غَيْرُ مُسِنَّةٍ، انْقَطَعَتْ وِلَادَتُهَا {وَلَا بِكْرٌ} لَمْ تَلِدْ بِالْمَرَّةِ، وَالْمُرَادُ بِهَا الَّتِي لَمْ تَلِدْ كَثِيرًا {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} الْعَوَانُ: النَّصَفُ فِي السِّنِّ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَهَائِمِ، أَيْ هِيَ بَيْنَ مَا ذُكِرَ مِنَ السِّنَّيْنِ الْفَارِضِ وَالْبِكْرِ، فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِكَلِمَةِ {ذَلِكَ} مُتَعَدِّدٌ فِي الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ مُنْفَرِدًا. و{بَيْنَ} مِنَ الْكَلِمِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالْمُتَعَدِّدِ تَقُولُ: جَلَسْتُ بَيْنَهُمْ أَوْ بَيْنَهُمَا، وَلَا تَقُولُ: جَلَسْتُ بَيْنَهُ، وَاسْتِعْمَالُ الْإِشَارَةِ وَالضَّمِيرِ الْمُفْرَدَيْنِ فِيمَا هُوَ بِمَعْنَى الْجَمْعِ عَلَى تَقْدِيرِ: التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْمَذْكُورِ، أَوْ مَا ذُكِرَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ:
فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ ** كَأَنَّهُ فِي الْجِسْمِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ

ذَكَرَ هَذَا الْوَصْفَ الْمُمَيِّزَ لِلْبَقَرَةِ فِي الْجُمْلَةِ وَقَالَ: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} وَكَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمُ الِاكْتِفَاءُ بِهِ وَالْمُبَادَرَةُ بَعْدَهُ لِلْامْتِثَالِ، وَلَكِنَّهُمْ أَبَوْا إِلَّا تَنَطُّعًا وَاسْتِقْصَاءً فِي السُّؤَالِ {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} الْفَاقِعُ: الشَّدِيدُ الصُّفْرَةِ فِي صَفَاءٍ بِحَيْثُ لَا يُخَالِطُهُ لَوْنٌ آخَرُ، وَبَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ لَا يَخُصُّهُ بِالْأَصْفَرِ، بَلْ يَجْعَلُهُ وَصْفًا لِكُلِّ لَوْنٍ صَافٍ.
وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكْتَفُوا بِهَذِهِ الْمُمَيِّزَاتِ وَلَكِنَّهُمْ زَادُوا تَنَطُّعًا إِذْ {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ} وَقَدْ أَرَادُوا بِهَذَا السُّؤَالِ زِيَادَةَ التَّمْيِيزِ كَكَوْنِهَا عَامِلَةً أَوْ سَائِمَةً {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ} سَائِمَةٌ {لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ} أَيْ غَيْرُ مُذَلَّلَةٍ بِالْعَمَلِ فِي الْحِرَاثَةِ وَلَا فِي السَّقْيِ {مُسَلَّمَةٌ} مِنَ الْعُيُوبِ، أَوْ مِنْ سَائِرِ الْأَعْمَالِ {لَا شِيَةَ فِيهَا} أَيْ لَيْسَ فِيهَا لَوْنٌ آخَرُ غَيْرَ الصُّفْرَةِ الْفَاقِعَةِ. وَالشِّيَةُ: مَصْدَرٌ كَالْعِدَةِ مِنْ وَشَى الثَّوْبَ يَشِيهُ إِذَا جَعَلَ فِيهِ خُطُوطًا مِنْ غَيْرِ لَوْنِهِ بِنَحْوِ تَطْرِيزٍ. وَلَمَّا اسْتَوْفَى جَمِيعَ الْمُمَيِّزَاتِ وَالْمُشَخِّصَاتِ وَلَمْ يَرَوْا سَبِيلًا إِلَى سُؤَالٍ آخَرَ {قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} أَيْ وَمَا قَارَبُوا أَنْ يَذْبَحُوهَا إِلَّا بَعْدَ أَنِ انْتَهَتْ أَسْئِلَتُهُمْ، وَانْقَطَعَ مَا كَانَ مِنْ تَنَطُّعِهِمْ وَتَعَنُّتِهِمْ.
رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي التَّفْسِيرِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا «لَوْ ذَبَحُوا أَيَّ بَقَرَةٍ أَرَادُوا لَأَجْزَأَتْهُمْ، وَلَكِنْ شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللهُ عَلَيْهِمْ» وَأَخْرَجَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ عَنْ عِكْرِمَةَ مَرْفُوعًا مُرْسَلًا.
وَهَاهُنَا يَذْكُرُ الْمُفَسِّرُونَ قِصَّةً فِي حِكْمَةِ هَذَا التَّشْدِيدِ، وَهُوَ الْمَصِيرُ إِلَى بَقَرَةٍ مُعَيَّنَةٍ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ كَانَ بَارًّا بِوَالِدَتِهِ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا صَحِيحًا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ فِي التَّفْسِيرِ وَبَيَانِ الْمَعْنَى. وَقَدْ يَشْتَبِهُ بَعْضُ النَّاسِ فِيمَا ذُكِرَ بِأَنَّ أَحْكَامَ اللهِ تَعَالَى لَا تَكُونُ تَابِعَةً لِأَفْعَالِ النَّاسِ الْعَارِضَةِ، وَيَرُدُّ هَذِهِ الشُّبْهَةَ أَنَّ التَّكْلِيفَ كَثِيرًا مَا يَكُونُ عُقُوبَةً؛ لِأَنَّهُ تَرْبِيَةٌ لِلنَّاسِ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَسْئِلَةُ وَالْأَجْوِبَةُ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مَفْصُولَةً غَيْرَ مَوْصُولَةٍ بِالْفَاءِ، وَذَلِكَ مَا يَقْتَضِيهِ الْأُسْلُوبُ الْبَلِيغُ، فَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْبَلَاغَةِ أَنَّ الْقَوْلَ إِذَا أَشْعَرَ بِسُؤَالٍ، كَانَ مَا يَأْتِي بَعْدَهُ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِلسُّؤَالِ الْمُقَدَّرِ مَفْصُولًا عَمَّا قَبْلَهُ، وَقَوْلُهُ: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} يُشْعِرُ بِسُؤَالٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا كَانَ مِنْهُمْ بَعْدَ الْأَمْرِ؟ فَأُجِيبَ عَنْهُ بِقوله: {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا} وَهَذَا يُشْعِرُ بِسُؤَالٍ أَيْضًا، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَاذَا قَالَ مُوسَى إِذْ قَالُوا ذَلِكَ؟ فَأَجَابَ: {قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ}... إِلَخْ. وَهَكَذَا وَرَدَ غَيْرُهَا مِنَ الْمُرَاجَعَاتِ فِي التَّنْزِيلِ، كَمَا تَرَى فِي قِصَّةِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ.
{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
هَذَا هُوَ أَوَّلُ الْقِصَّةِ الْمُحْتَوِيَةِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ عَلَى مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ وَهِيَ الْقَتْلُ، ثُمَّ التَّنَازُعُ فِي الْقَاتِلِ ثُمَّ تَشْرِيعُ الْحُكْمِ لِكَشْفِ الْحَقِيقَةِ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ وَمَا كَانَ مِنْ إِلْحَاحِهِمْ فِي السُّؤَالِ عَلَى مَا سَبَقَ.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} أُسْنِدَ فِيهِ الْقَتْلُ إِلَى الْأُمَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ وَاحِدًا بِاعْتِبَارِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِهَا فِي مَجْمُوعِهَا وَتَكَافُلِهَا كَالشَّخْصِ الْوَاحِدِ. وَالتَّدَارُؤُ: تَفَاعُلٌ مِنَ الدَّرْءِ وَهُوَ الدَّفْعُ، فَمَعْنَاهُ: التَّدَافُعُ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ خِصَامٌ وَاتِّهَامٌ، وَكَانَ كُلٌّ يَدْرَأُ عَنْ نَفْسِهِ وَيَدَّعِي الْبَرَاءَةَ وَيَتَّهِمُ غَيْرَهُ، وَكَانَ لِلْقَاتِلِينَ وَالْعَارِفِينَ بِهِمْ حُظُوظٌ وَأَهْوَاءٌ كَتَمُوا فِيهَا الْحَقِيقَةَ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ التَّذْكِيرِ بِالْجَرِيمَةِ: {وَاللهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} مِنَ الْإِيقَاعِ بِقَوْمٍ بُرَاءُ تَتَّهِمُونَهُمْ بِالْقَتْلِ لِإِخْفَاءِ الْقَاتِلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَكْرُكُمْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى} فَهُوَ بَيَانٌ لِإِخْرَاجِ مَا يَكْتُمُونَ.
وَيَرْوُونَ فِي هَذَا الضَّرْبِ رِوَايَاتٍ كَثِيرَةً.
قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ اضْرِبُوا الْمَقْتُولَ بِلِسَانِهَا، وَقِيلَ: بِفَخِذِهَا. وَقِيلَ: بِذَنَبِهَا. وَقَالُوا: إِنَّهُمْ ضَرَبُوهُ فَعَادَتْ إِلَيْهِ الْحَيَاةُ وَقَالَ: قَتَلَنِي أَخِي أَوِ ابْنُ أَخِي فُلَانٍ إِلَى آخِرِ مَا قَالُوهُ، وَالْآيَةُ لَيْسَتْ نَصًّا فِي مُجْمَلِهِ فَكَيْفَ بِتَفْصِيلِهِ؟ وَالظَّاهِرُ مِمَّا قَدَّمْنَا أَنَّ ذَلِكَ الْعَمَلَ كَانَ وَسِيلَةً عِنْدَهُمْ لِلْفَصْلِ فِي الدِّمَاءِ عِنْدَ التَّنَازُعِ فِي الْقَاتِلِ إِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ قُرْبَ بَلَدٍ وَلَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ؛ لِيُعْرَفَ الْجَانِي مِنْ غَيْرِهِ، فَمَنْ غَسَلَ يَدَهُ وَفَعَلَ مَا رُسِمَ لِذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ بَرِيءٌ مِنَ الدَّمِ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ الْجِنَايَةُ. وَمَعْنَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى- عَلَى هَذَا- حِفْظُ الدِّمَاءِ الَّتِي كَانَتْ عُرْضَةً لِأَنْ تُسْفَكَ، بِسَبَبِ الْخِلَافِ فِي قَتْلِ تِلْكَ النَّفْسِ، أَيْ يُحْيِيهَا بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ، وَهَذَا الْإِحْيَاءِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [5: 32] وَقَوْلِهِ: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [2: 179] فَالْإِحْيَاءُ هُنَا مَعْنَاهُ الِاسْتِبْقَاءُ كَمَا هُوَ الْمَعْنَى فِي الْآيَتَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} بِمَا يَفْصِلُ فِي الْخُصُومَاتِ، وَيُزِيلُ مِنْ أَسْبَابِ الْفِتَنِ وَالْعَدَاوَاتِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ} [4: 105]، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ مِثْلُ هَذَا التَّعْبِيرِ فِي آيَاتِ اللهِ فِي خَلْقِهِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ رُسُلِهِ، وَلَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ عَنْ شَيْخِنَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَلَكِنَّهُ قَالَ فِي تَعْلِيلِهَا مَا يُرَجِّحُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وَهُوَ {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أَيْ تَفْقَهُونَ أَسْرَارَ الْأَحْكَامِ، وَفَائِدَةَ الْخُضُوعِ لِلشَّرِيعَةِ، فَلَا تَتَوَهَّمُونَ أَنَّ مَا وَقَعَ مُخْتَصٌّ بِهَذِهِ الْوَاقِعَةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ تَتَلَقَّوْا أَمْرَ اللهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِالْقَبُولِ مِنْ غَيْرِ تَعَنُّتٍ.
قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
أَقُولُ: وَصَفَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ قَدْ طَرَأَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ رُؤْيَةِ تِلْكَ الْآيَاتِ مَا أَزَالَ أَثَرَهَا مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَذَهَبَ بِعِبْرَتِهَا مِنْ عُقُولِهِمْ، فَقَالَ: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} فَالْعَطْفُ بِ ثم يُفِيدُ أَنَّ الْأَوَّلِينَ مِنْهُمْ قَدْ خَشَعَتْ قُلُوبُهُمْ لِمَا رَأَوْا فِي زَمَنِ مُوسَى عليه السلام مَا رَأَوْا، ثُمَّ خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ كَانَ أَمْرُ قَسْوَتِهَا مَا وَصَفَهُ- عَزَّ وَجَلَّ. وَالْقَسْوَةُ الصَّلَابَةُ وَهِيَ مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ، وَوَصْفُ الْقُلُوبِ بِالْقَسْوَةِ مَجَازُ تَشْبِيهٍ مِمَّا يُسَمُّونَهُ الِاسْتِعَارَةَ بِالْكِنَايَةِ، وَيَصِحُّ فِي أَوْ التَّرْدِيدُ وَالتَّشْكِيكُ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ لَا إِلَى الْمُتَكَلِّمِ بِاعْتِبَارِ مَا يُعْهَدُ فِي التَّخَاطُبِ الْعَرَبِيِّ، كَأَنَّ عَرَبِيًّا يُحَدِّثُ آخَرَ وَيَقُولُ لَهُ: إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ فِي قَسْوَتِهَا تُشْبِهُ الْحِجَارَةَ أَوْ تَزِيدُ عَلَيْهَا. وَيَصِحُّ فِيهَا التَّقْسِيمُ، أَيْ أَنَّ الْقَسْوَةَ عَمَّتْ قُلُوبَكُمْ، فَأَقَلُّهَا قَسْوَةً تُشْبِهُ الْحَجَرَ الصَّلْدَ، وَمِنْهَا مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قَسْوَةً، وَأَظْهَرُ مِنْهُمَا أَنْ تَكُونَ لِلْإِضْرَابِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُبَالَغَةِ، أَيْ بَلْ هِيَ أَشَدُّ قَسْوَةً مِنَ الْحِجَارَةِ؛ إِذْ لَا شُعُورَ فِيهَا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَلَا عَاطِفَةَ تَفِيضُ مِنْهَا بِعِبْرَةٍ، وَالْحِجَارَةُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مِنْهَا مَا يَفِيضُ بِالْخَيْرَاتِ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ مَوْضِعَ ظُهُورِ آثَارِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الْجَمَادَاتِ.
وَصَفَ الْحِجَارَةَ بِالصِّفَاتِ الثَّلَاثَةِ الْآتِيَةِ بَعْدَ أَنْ شَبَّهَ الْقُلُوبَ بِهَا فِي الصَّلَابَةِ الْمُطْلَقَةِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْقُلُوبِ وَبَيْنَهَا بِالْإِضْرَابِ، وَالِانْتِقَالِ إِلَى أَنَّ الْقُلُوبَ أَشَدُّ صَلَابَةً، وَأَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَجْهَ ضَعْفِ الصَّلَابَةِ فِي الْحِجَارَةِ وَشِدَّتِهَا فِي الْقُلُوبِ، فَكَأَنَّ الْكَلَامَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عُذْرًا عَنِ الْحِجَارَةِ دُونَ الْقُلُوبِ، وَالْمُرَادُ بِالْقُلُوبِ مَا اعْتُبِرَتْ عُنْوَانًا لَهُ وَهُوَ الْوِجْدَانُ وَالْعَقْلُ، وَأَكْثَرُ مَا اسْتُعْمِلَ فِي الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ سَائِقُ الْإِقْنَاعِ وَالْإِذْعَانِ، وَيُطْلَقُ لَفْظُ الْقَلْبِ عَلَى النَّفْسِ النَّاطِقَةِ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْقَلْبِ أَنْ يَتَأَثَّرَ مِمَّا يَتَأَثَّرُ مِنْهُ الْوِجْدَانُ أَوِ الْعَقْلُ أَوِ الرُّوحُ مُطْلَقًا، وَفِي الْكَلَامِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ أَنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ فَقَدَتْ خَاصِّيَّةَ التَّأَثُّرِ وَالِانْفِعَالِ بِمَا يَرِدُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالْآيَاتِ الَّتِي هِيَ مِنْ خَوَاصِّ الرُّوحِ الْإِنْسَانِيِّ، حَتَّى كَأَنَّ أَصْحَابَهَا هَبَطُوا مِنْ دَرَجَةِ الْحَيَوَانِ إِلَى دَرَكَةِ الْجَمَادِ كَالْحِجَارَةِ، بَلْ نَزَلُوا عَنْ دَرَكَةِ الْحِجَارَةِ أَيْضًا، وَذَلِكَ مَا أَفَادَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ} التَّفَجُّرُ: تَفَعُّلُ مِنَ الْفَجْرِ وَهُوَ الشِّقُّ الْوَاسِعُ يَكُونُ لِلْمُطَاوَعَةِ، كَفَجَّرْتُهُ فَتَفَجَّرَ بِالتَّشْدِيدِ فِيهِمَا وَيَكُونُ لِتَكَرُّرِ الْفِعْلِ وَحُصُولِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَمِثْلُهُ التَّشَقُّقُ إِلَّا أَنَّهُ أَعَمُّ، وَلِمَا فِي التَّفَجُّرِ مِنْ مَعْنَى السَّعَةِ عَبَّرَ بِهِ عَنْ خُرُوجِ الْأَنْهَارِ مِنَ الصُّخُورِ الْكِبَارِ وَهُوَ مَعْهُودٌ فِي الْجِبَالِ، وَعَبَّرَ بِالتَّشَقُّقِ لِخُرُوجِ الْمَاءِ الَّذِي يُصَدَّقُ بِالْقَلِيلِ مِنْهُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْحِجَارَةَ عَلَى صَلَابَتِهَا وَقَسْوَتِهَا تَتَأَثَّرُ بِالْمَاءِ الرَّقِيقِ اللَّطِيفِ فَيَشُقُّهَا وَيَنْفُذُ مِنْهَا بِقِلَّةٍ أَوْ كَثْرَةٍ، فَيُحْيِي الْأَرْضَ وَيَنْفَعُ النَّبَاتَ وَالْحَيَوَانَ. وَأَمَّا هَذِهِ الْقُلُوبُ فَلَمْ تَعُدْ تَتَأَثَّرُ بِالْحِكَمِ وَالنُّذُرِ وَلَا بِالْعِظَاتِ وَالْعِبَرِ، فَالْحِكَمُ لَا تَقْوَى عَلَى شَقِّهَا وَالنُّفُوذِ مِنْهَا إِلَى أَعْمَاقِ الْوِجْدَانِ، وَأَنْوَارُ الْفِطْرَةِ قَدِ انْطَفَأَتْ فِيهَا فَلَا يَظْهَرُ شُعَاعُهَا عَلَى إِنْسَانٍ، وَمِنَ الْحِجَارَةِ مَا يَشُقُّهُ الْمَاءُ الْقَلِيلُ كَمَاءِ الْعُيُونِ وَالْيَنَابِيعِ الْحَجَرِيَّةِ، وَمِنْهَا مَا لَا يُفَجِّرُهُ إِلَّا الْمَاءُ الْقَوِيُّ الْغَمْرُ الَّذِي يُسَمَّى نَهْرًا.
{وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ} وَهُوَ مَا يَنْحَطُّ مِنْ أَعْلَى الْجَبَلِ، وَمِنْ أَثْنَائِهِ بِسَبَبِ أَثَرٍ مِنْ آثَارِ الْقَهْرِ الْإِلَهِيِّ كَالْبَرَاكِينَ وَالصَّوَاعِقِ الَّتِي تَهْبِطُ بِهَا الصُّخُورُ وَتَنْدَكُّ الْجِبَالُ، وَقَدْ جُعِلَ هَذَا شَبَهًا لِلْآيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي أَظْهَرَهَا عَلَى يَدِ عَبْدِهِ وَنَبِيِّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَهِيَ حَوَادِثُ عَظِيمَةٌ فِي الْكَوْنِ تَفْزَعُ بِهَا نُفُوسُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى اللهِ، وَتَخْشَعُ لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ لِعَظَمَتِهَا وَخَفَاءِ سِرِّ إِيجَادِهَا، كَمَا تَفْزَعُ النُّفُوسُ مِنْ حَوَادِثِ الْبَرَاكِينِ وَالصَّوَاعِقِ الَّتِي تَدُكُّ الصُّخُورَ وَتُدَمِّرُ الْحُصُونَ، وَقَدْ أَصْبَحَتْ تِلْكَ الْقُلُوبُ بَعْدَ مُشَاهَدَةِ الْآيَاتِ لَا تَتَأَثَّرُ بِهَا وَلَا تَزْدَادُ إِيمَانًا.
فَمُلَخَّصُ التَّشْبِيهِ: أَنَّ قُلُوبَكُمْ تُشْبِهُ الْحِجَارَةَ فِي الْقَسْوَةِ، بَلْ قَدْ تَزِيدُ فِي الْقَسَاوَةِ عَنْهَا، فَإِنَّ الْحِجَارَةَ الصُّمَّ تَتَأَثَّرُ فِي بَاطِنِهَا بِالْمَاءِ اللَّطِيفِ النَّافِعِ، بَعْضُهَا بِالْقَوِيِّ مِنْهُ وَبَعْضُهَا بِالضَّعِيفِ، وَلَكِنَّ قُلُوبَكُمْ لَا تَتَأَثَّرُ بِالْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا التَّأْثِيرُ فِي الْوِجْدَانِ وَالنُّفُوذُ إِلَى الْجَنَانِ، وَالْحِجَارَةُ تَتَأَثَّرُ بِالْحَوَادِثِ الْهَائِلَةِ الَّتِي يُحْدِثُهَا اللهُ فِي الْكَوْنِ كَالصَّوَاعِقِ وَالزَّلَازِلِ، وَلَكِنَّ قُلُوبَكُمْ لَمْ تَتَأَثَّرْ بِتِلْكَ الْآيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي تُشْبِهُهَا، فَلَا أَفَادَتْ فِيهَا الْمُؤَثِّرَاتُ الدَّاخِلِيَّةُ، وَلَا الْمُؤَثِّرَاتُ الْخَارِجِيَّةُ كَمَا أَفَادَتْ فِي الْأَحْجَارِ، فَبِذَلِكَ كَانَتْ قُلُوبُكُمْ أَشَدُّ قَسْوَةً. ثُمَّ هَدَّدَهُمْ بِقَوْلِهِ: {وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} أَيْ فَهُوَ سَيُرَبِّيكُمْ بِضُرُوبِ النِّقَمِ، إِذَا لَمْ تَتَرَبَّوْا بِصُنُوفِ النِّعَمِ.
{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}.
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- يَرَوْنَ أَنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِالْإِيمَانِ وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ الْيَهُودُ؛ لِأَنَّهُمْ مُوَحِّدُونَ وَمُصَدِّقُونَ بِالْوَحْيِ وَالْبَعْثِ فِي الْجُمْلَةِ؛ وَلِذَلِكَ كَانُوا يَطْمَعُونَ بِدُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ أَفْوَاجًا؛ لِأَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ فِي الْجُمْلَةِ، وَمُجْلٍ لِجَمِيعِ شُبُهَاتِ الدِّينِ، وَحَالٌّ لِجَمِيعِ إِشْكَالَاتِهِ بِالتَّفْصِيلِ، وَوَاضِعٌ لَهُ عَلَى قَوَاعِدَ لَا تُرْهِقُ النَّاسَ عُسْرًا {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [7: 157].
كَانَ هَذَا الطَّمَعُ فِي إِيمَانِهِمْ مَبْنِيًّا عَلَى وَجْهٍ نَظَرِيٍّ مَعْقُولٍ، لَوْلَا أَنَّهُمُ اكْتَفَوْا بِجَعْلِ الدِّينِ رَابِطَةً جِنْسِيَّةً، وَلَمْ يَجْعَلُوهُ هِدَايَةً رُوحِيَّةً؛ وَلِذَلِكَ كَانُوا يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ بِاخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ وَالْآرَاءِ، وَيُحَرِّفُونَ كَلِمَهُ عَنْ مَوَاضِعِهَا بِحَسَبِ الْأَهْوَاءِ، وَمَا أَعْذَرَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي طَمَعِهِمْ هَذَا إِلَّا بَعْدَ مَا قَصَّ عَلَيْهِمْ مِنْ نَبَأِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ التَّشْرِيعِ، وَشَاهَدُوا مِنَ الْآيَاتِ مَا عُلِمَ بِهِ أَنَّهُمْ فِي الْمُجَاحَدَةِ وَالْمُعَانَدَةِ عَلَى عِرْقٍ رَاسِخٍ وَنَحِيزَةٍ مَوْرُوثَةٍ لَا يَكْفِي فِي زِلْزَالِهَا كَوْنُ الْقُرْآنِ مُبِينًا فِي نَفْسِهِ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ رَيْبٌ، وَلَا يَتَسَرَّبُ إِلَيْهِ شَكٌّ؛ وَلِذَلِكَ بَدَأَ السُّورَةَ بِوَصْفِ الْكِتَابِ بِهَذَا وَكَوْنِهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ، وَثَنَّى بِبَيَانِ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعَانِدُهُ وَيُبَاهِتُهُ، وَمِنْهُمُ الْمُذَبْذَبُ الَّذِي يَمِيلُ مَعَ الرِّيحَيْنِ فَلَا يَثْبُتُ مَعَ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ، ثُمَّ أَفَاضَ فِي شَرْحِ حَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالتَّقْوَى، وَكَانَ الْأَكْثَرُونَ أَشَدَّ النَّاسِ اسْتِكْبَارًا عَنِ الْإِيمَانِ وَإِيذَاءً لِلرَّسُولِ وَلِمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَبَعْدَ هَذَا كُلِّهِ أَنْكَرَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ذَلِكَ الطَّمَعَ بِدُخُولِ الْيَهُودِ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا، وَوَصَلَ الْإِنْكَارَ بِحُجَّةٍ وَاقِعَةٍ نَاهِضَةٍ، تَجْعَلُ تِلْكَ الْحُجَّةَ النَّظَرِيَّةَ دَاحِضَةً، فَعُلِمَ بِهَذَا أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَزَالُ مُتَّصِلًا فِي مَوْضُوعِ الْكِتَابِ وَأَصْنَافِ النَّاسِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَعَدَمِ الْإِيمَانِ، كُلَّمَا بَعُدَ الْعَهْدُ جَاءَ مَا يُذَكِّرُ بِهِ تَذْكِيرًا. اهـ.